لضيعتي سلام وألف تحيّة! لم تعرفيني قط وظللتِ حسرة في حنايا أفئدة عائلتنا، شاء القدر وفرض بفعل حرب أنست أبناء الوطن انّ لدينا حقاً في أراضي جبيل وكسروان مُنعنا وحوربنا وضاع حقنا في بناء بيوت في مرتع أجدادنا.
شئت أن أغيّر العرف و أزور يحشوش بكلّ فخر مصرًّا أنّ لديّ حقاً في هذه الأرض. انطلقت سيارة العائلة من بيروت متّجهين إلى كسروان. بدأت رحلتنا في دورتنا على أزقّة بيروت القديمة، من الحازميّة، سنّ الفيل وبرج حمّود الّتي لم أجد لعشق أزقّتها التراثيّة بديلًا.
استقبلتنا شعارات ثورة ١٧ تشرين المتربصة في جل الديب ثم محطّتنا الأولى كانت عند فلافل “أبو اندريه” في انطلياس وتذوّفنا عراقة 1958.
ماهي إلّا دقائق حتّى وصلنا إلى نهر الكلب، نهر حوى وكان خير شاهد على فتن طائفيّة لطالما هدّدت السّلم الأهليّ. امّا غزير فها هي الآن بحلّتها الخضراء، تُرينا بكركي من جهة وخليج جونية من جهة أخرى.
تابعنا سيرنا نحو جونية، حيث البحر والرّمل والخليج والجبل والسّفح والقمّة، حيث جمد التّاريخ كرازة مدوية لتاريخ فينيقيا الأثريّ.
كان تلفريك جونية يضجّ بالمواطنين والسّائحين. ولا بدّ أن نتذوّق بوظة “قزيلي” بكلّ مشوار نمرّ فيه في هذه المدينة الفينيقيّة. كانت المظلّات الهوائّية تزيّن سماء الخليج حاملة أعلام الأرز اللبنانيّة.
كانت جونية نافذة على الحيويّة بأسواقها التجاريّة والأثريّة، ولياليها الصّاخبة واصلة اللّيل بنهارها، والشّتاء بصيفها بسهرها المعتاد.
ما لبثنا أن قطعنا طبرجا حتّى بدأت سلسلة منعطفات قويّة في القرى المجاورة. كان طريقنا الى “يحشوش” يمرّ بطرقات على ضفافها أشجار خضراء، وجبال عالية مكلّلة بالثّلوج، مشهد يمجّد جمال سويسرا الشّرق.
وصلنا إلى وجهتنا “نهر إبراهيم”، بين جبلين عاليين خضراوين، لفتا السّيّاح. كان مشهدا طبيعيًّا بكلّ معنى الكلمة، لا يوصف، فكان النّهر يهتف هادرًا بحبّ أدونيس وعشتروت، طربت به، فلم أجد أعذب لحنًا و أبقى عطرًا من أرقّ حدائه وأكرم من قصائد غزله. أمّا الجبال فقد طغى عليها الأخضر السّندسيّ. ها هي يحشوش ليتني عرفتها وترعرت فيها.
ضاعت أيّام وسنوات في البعد عن هذا الجمال. فلمَ لم أتعرف الى جمال ضيعتي للآن، ومضت أجمل اللّحظات في البعد والجهل عن يحشوش، وما يفيضها من سحر ورونق.
بقلم حسين شمص.