یشقُّ عليَّ ویُثقلُ على صدري أن أَجدَ نفسي في لحظةٍ مثل هذه، متحدثاً في فقیدٍ كبیر، رثته الأقلام وبكته العیون وحزن
لغیابه العنفوان وتأوهت لفقده الحقیقة والمواقف النبیلة وعرى لرحیله صوت الذین لا صوت لهم انكسار وألم. فماذا ستضیف كلماتي المنسوجة من خیوط الألم ومن نبل العرفان إلى من سبقني في رثائه وانصافه من زملاء ومحبین ومریدین؟
وما یضاعف المشقة هو أنني لا أتحدّثُ عن فقیدٍ عزیزٍ مُمَیَز جمعتني به المَحبّة والصّداقة والالتزام الوطني والقومي والعلمي، والمهنة فحسب، وإنّما أتحدّثُ عن مُناضلٍ كبیر بكاه وحیّاه لبنان والعالم العربي …فهو لم یَمَلّ ولم ییأس ولم یتراجع عن مبدأٍ آمن به رسَخ في ذهنه، فنَذرَ نفسه إلیه، واستكمل مشروعه الذي بدأه منذ أكثر من ستّین عامًا، بالعزیمة والإصرار على مجابهة التحدّیات والمصاعب. حیث كان، رحمه لله، أشبه ما یكون بشخصیّةٍ استثنائیة، قُدّت من فولاذ .. هو الملتزم الذي ما فصَلَ بین الفكر والمُمارسة حیثُ انخرطَ في الحركة القومیّة العربیّة، إلى أن أصبح رمزًا عربیًّا للفكر الملتزم بالنّهضة والوحدة، ورائدًا ومِثالاً به یُحتذى ویُقتدى ..
طلال سلمان، الرّجل الرّفیع الأخلاق، المتواضع من دون انفعال، والعفیف اللسان، المؤمن بما یعمل، والذي یترفّعُ عن الردّ حین یُساء إلیه، ویصفح عن المُسيء، یُحسن الظنَّ بالجمیع وینسى الأذى حین یكون للنّسیان الأثر الإیجابي .. یحترم صاحب الرّأي وإن خالفه ولا یجد غضاضةً في مُناقشته.. وفيٌّ لأصدقائه ولزملائه، حافظٌ للأمانة…
طلال سلمان هو من طینة الذین لا یرحلون من الرّجال، لأَنّ ما تركه من إرثٍ عظیم یظلُّ حیًّا في العقول وفي النّفوس والإرادات، یُلهم الأمّة وأجیالها الجدیدة ویُزوّدها بالرُّؤیة الواضحة، وقد أثمرَ حقلاً، وأنشأَ مدرسة، وكان مِثالاً وقُدوة، حیث ساهمَ بغالبیة عظیمةٍ، وناضلَ في سبیل نشر الوعي العربي والوطني، منذ بدایاته في أواسط خمسینیّات القرن الماضي …
فیا أَیُّها المُتَوَج بورد الدُّنیا وبأقحوان السّماء، بَعدكَ صار الزّمانُ أُمّیًا، یتعلّمُ القراءة الأولى بحبر المعرفة، ویُشیّدُ في ساحات العلمِ نَصْبَ خلودك، والوجودُ داكنًا، والألوان أمست من المستحیل وحتى ألف عام..
إنّنا وكلّما هبّ الهواءُ سنذكُرُ تلك اللحظات، وكلّما دَجن اللیل سنذكرُ تلك الخطوات، وكلّما بعثَرَ
الشّجرُ أوراقه، سنذكر شتاء وربیع عینیك، فلعینیكَ حِداء السّماء وترانیم الآلهة …
لقد اخترت الرّحیل وآثرتَ الانطلاق إلى هدأَةِ العواطف حیث نزَل الضَّوءُ المُذهب في عُمق التُّراب وفي ظلمة الانقطاع لیَكْتُبَ نواحًا یصلُ إلى ملَكوتكَ السّماوي بعبارات الحیاة وعناوین الزّمن …
غاب طلال سلمان، الآتي من عُمقِ الحُلم، وهو یُصلّي من أجل الوطن والحیاة، على سجّادةٍ بنفسجیّةٍ .. صارَ كوكبًا فِضّیًّا ملأَ السّماء، ارتفع فوق رُؤى الصّمت شاهدًا من نور، وقد التفّت حُبَیْبات الموت حول جسده عِقدَ حسرات وجبلاً من آهاتٍ كتبت بالدّمِ قصیدةً بلا سطور ومن ألف نعش ونعش ..في لبنان وفي الوطن العربي، وفي ” شمسطار” الثَكلى، بكتِ الاعْیُن، سالت على ظمَأِ الرّوح، نامت على جُرحٍ مؤلم، تخضّبت بالأسى قلوب الأهل والرّفاق والزّملاء الذین تجرّعوا الحُزنَ عَلْقمًا، وحیث فقَدَتِ الكلماتُ أسمى معانیها وخُتمَتِ الذّاكرة بالشّمع الأخضر، وتوقّف الزّمان عند أوّل جرعة …
طلال سلمان، من وجنتیه أضاء القمرُ لیالي الحزن… طافت به فلواتُه على نعشٍ أرجوانيٍّ تخضّب بثقل الحِمل ووطأة الموت …
ویا أیُّها النّاعم في رحم الأبدیّة، إنّ للحبّ قوّةٌ عُظمى تَلِجُ على مؤثّرات الفرد وتتعمّق في إحساسه لتردّه إلى واقعه حیث أنتَ الآن مُسَلِمٌ بإرادةِ الخالق الذي خلقكَ وسوّاك، صامتًا لشدّة بلاغتك في امتزاج الحسّ الرّقیق والشّعور الشفّاف والتّجلُّد واللهفة والغفران والجوهر الذي یتبع الحقّ …ورحیلُكَ ترَك الحسرة والألم في نفوس الذین أذهلهم غیابُكَ، وقد خبِروا حنانك وإنسانیّتك، والذي طغى الحدَث الجَلل على أحلامهم وآمالهم فطوّعها بمقدار ما تُطوّع السُّنبلة الملآنة بالحَبُ، والحًُبّ نفوس المؤمنین …
طلال سلمان، في أمان الله ورعایته …
بقلم الدكتور عبد الحافظ شمص