وتبدأ القصة على مورد الماء (نبع) او في حفلة عرس، في الحقل او في سهرة عائلية، يسرق نظرة خاطفة، يلمح فتاة احلامه.. وبعدها يعود الى منزله، هناك يفشي بالسر العظيم يطلع والدته على كوامن فؤاده، وما يعتمر في قلبه من الهيام لابنة فلان (قريبته في معظم الاحوال).. وهنا تنتهي مهمته وتتولى الوالدة متابعة الحكاية، فتتصل بالعروس واهلها، وتلك مهمة بالغة الدقة تتم بالسرية المطلقة والحذر الشديد، تتعرف الى شخصية الفتاة وتنقل صورة كاملة عن وضع اهلها المادي والمعنوي، واصالة النسب، فاذا ما كان والدها ندهم اي مساويهم في الرتبة العائلية والسمعة الطيبة، تتم موافقة العريس ووالده. وهنا تتم مشاورة الاقربين للوقوف على رأيهم. وتنقل الام الموافقة الى ذوي العروس، فتبدأ هناك مشاورة الاقرباء ايضا حتى لا يعترض ابناء عمها على زواجها لان لهم الحق الاول في الزواج منها بعد ذلك يجتمع وجهاء البلدة مع الاقارب و«يكدّون» على اهل العروس (يأتون لطلب يدها من والدها)، اذا لم يكن هناك من موانع قاهرة لهذا الزواج.. فيطلبوا «القرب» من اهلها (المصاهرة)، وبعد اخذ الموافقة، تبدأ مراسم الخطوبة وهي على انواع:
أـ قراءة الفاتحة على نية التوفيق
ب ـ قراءة الفاتحة مع تلبيس العلامة (محبس الخطوبة)، ولوضع العلامة في يدها رمز يدل على انها اصبحت عروسا لفلان، ويحظر عليها نزع العلامة (خلع المحبس مثلا)، طوال ايام الخطبة امام الناس لان نزعها كناية عن فصل الخطوبة وابطالها.
ج ـ قراءة الفاتحة مع تلبيس العلامة مع خطبة دينية وقانونية (كتب كتابها شرعاً وقانوناً).
وتستمر الخطوبة لفترة غير محددة الى ان يتم «قطع الشرط»، وهو تحديد موعد العرس و«الدخلة» (دخول القفص الذهبي). حيث يتم اعداد وفد من الاقارب ووجهاء البلدة، يتوجهون الى بيت والد العروس للاتفاق على تحديد موعد العرس والاستماع الى مطالب العروس (بواسطة اهلها)، ويعطى الفريقان فترة للتجهيز، عند انتهائها يكون يوم الفرح.
عشية هذا اليوم السعيد، يتم ارسال بعض الرجال وبعض النساء، كسفراء من خيرة الاذكياء الحذقين، يمثلون اهل العريس، فيتولون خدمة العروس والسهر على حمايتها والمحافظة عليها من اي مكروه، يسمّون «الفارده».
اما في منزل العريس فيجتمع الرجال في مكان والنساء في مكان آخر، وتكون الدعوة شاملة العائلة واهل القرية والجوار حيث تقام حلقات الدبكة ( الشمالية والبداوية، والدلعونة والهوارة) والغناء البلدي (العتابا وابو الزلف والميجانا) ويعلو الهرج والمرج والدعابة والهذر.. كما في منزل اهل العروس يقوم الشيء نفسه من تقاليد الافراح والليالي الملاح..
وبعد ان يطلوا يدي العريس بالحناء (صباغ احمر) يأتي جماعة من اصحابه فيسرقونه الى مكان ما ويكون ذلك في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، وفي صباح اليوم التالي ينحرون له ذبيحته، وبعد تناول طعام الافطار هذا، يطلقون بعض العيارات النارية، علامة على وجود العريس عندهم، فيأتي اهله وبعض المجتمعين في داره، بأغان واهازيج، يتقدمهم رجل يحمل ديكا بلديا كهدية يقدمها لرفاق العريس بدل طعام الافطار، ثم يعودون جميعا مع عريسهم الى دارته وهو يركب فرساً في مقدمة «العرّاسة» وهم يرددون اهزوجة «جبنا العريس وجينا..» واهازيج اخرى.
وما ان يصل حتى يجلسونه في فيء سنديانة او شجرة وارفة، لاجراء الحلاقة الاحتفالية وتلبيس ثياب العرس، فيما يضرب شبابه وخاصته طوقا حوله وهم يهوبرون «حلاّق حلاّق جرّ الموس وحلقلوا…» وبعدها يجلسون الى الغداء، فيبقى العريس على رأس الطاولة مهما تتالت افواج الآكلين.. وفور الانتهاء من حفلة الطعام يغادر الجميع الى منزل اهل العروس حيث يتولى والد العريس وكبار عائلته طلب الاذن من ذويها لاخراجها، فيأخذها والدها من يدها مع امها واخوتها ويخرجها الى الباب. هناك يتم توديعها وتسليمها الى العريس، الذي تتقدم منه والدة العروس لتبخيره فيضع في يدها مبلغاً من المال بدل البخور. فيما يكون جوادان مزينان ينتظران العروسين اللذين يعتليان صهوتهما للحال استعدادا للانطلاق.
في هذا الوقت تكون بعض الفتيات من صديقات العروس ومن طرف اهل العريس يفتشون في منزل ذوي العروس ليغنموا بعض الحاجيات الثمينة.. ويتوجه الموكب الى منزل العروسين. وعند الوصول ترفض العروس النزول عن صهوة الجواد، ما لم يهبها اهل العريس «خلعة باب الدار» وهي كناية عن غنم او ماعز او سجادة او مبلغ من المال، وبعد وهبها الخلعة هذه، تتقدم ام العريس لتحرق امامها البخور بدورها ناثرة عليها حبات الرز، ثم يتابع العروسان سيرهما الى باب البيت حيث تلصق العروس «الخميرة» فوق باب البيت وهي كناية عن عجينة ترمز الى الفأل والبركة اذا لصقت والى الشؤم والفراق اذا لم تلصق.. ويتفرق بعد ذلك المدعوون ليدخل العروسان الى قفص السعادة وقطف الشهد.. على ان تقبل التهاني ودفع النقوط اما فورا للذين يكونون قد اتوا من مكان بعيد واما بعد الثلاثة ايام التي تلي يوم «الدخلة».
} الثأر }
لا يحفظ كرامة العشيرة ويرد اعتبارها في حالة الاعتداء على حياة احد افرادها الا الثأر او جاه المصلحين.
فالثأر من القاتل يأتي تمشياً على سنة القاتل يقتل، والعادة ان يقتل اي شخص من عائلة القاتل. فينزع شباب العشيرة عقالاتهم عن رؤوسهم ويرمونها على قبر القتيل ويقضي هذا التقليد بأن لا يعودوا يضعونها على رؤوسهم مجددا الا عند الاخذ بثأره (هذه من العادات الجاهلية المتوارثة التي تخلت عنها العشائر في وقتنا هذا).
اما جاه المصلحين فيأتي كما يلي:
اولا: اذا كان القتل ظلما وعدوانا، فللصلح هنا حالتان:
1ـ «الكدّة»: اي اذا ادخل المصلحون وهم اوجه العائلات والعشائر القاتل على اهل القتيل فجأة، وفي بعض الحالات يرمى القاتل على جبّانة (قبر) القتيل بعد ان يربط منديلا حول عنقه. فما على اهل القتيل في هذه الحالة الا تقبل جاه المصلحين واعلان العفو وذلك في شكلين:
أ ـ في حالة نفاد الصبر، يعفى عن القاتل ويطلب ابعاده عن المنطقة.
ب ـ يعفى عن القاتل ويتم تلبيسه العباءة (الخلعة) وفي هذا الشكل لا يطلب الابعاد.
2ـ اجراء مفاوضات الصلح مع اهل القاتل (صلح البريئين) على ان يعلنوا صراحة كشرط مفروض:
أ ـ نفيه وهدر دمه والتبرؤ منه والامتناع عن حمايته.
ب ـ عدم تقديم اي شكل من اشكال المساعدة، من وضع محام للمرافعة عنه او زيارته او مده بالمال.
ج ـ اذا وجد مع احد او جماعة من عائلته يعتبر دم الجميع مهدوراً على انهم خانوا العهد الذي قطعوه على انفسهم.
اما اذا كان القتل قضاء وقدرا، فيترتب ما يأتي:
1ـ حفظ كرامة اهل القتيل ومعنوياتهم (جاه المصلحين)، بأن يأتي وفد من اوجه العائلات والعشائر، كما ذكرنا سابقاً لاجراء مفاوضات الصلح وفق الاشكال الآتية:
أ ـ تسليمه الى السلطة في حال وجودها.
ب ـ دفع «جنيّه» وتسمى ايضا «ديّه» وهي كناية عن جزاء مادي، تتراوح قيمته بين 2 الى 02 مليون ليرة وذلك حسب ظروف الجريمة واهمية القتيل
ج ـ دفع «صرة عرب» وهي كناية عما تيسر من المال دون تحديد الرقم.
د ـ تقديم نساء بدلا من الجزاء المادي، فكل فتاتين اثنتين تعادلان «ديّة» رجل عادي.
والجدير بالذكر انه اذا قتل رجل ضعيف ومن عائلة ضعيفة رجلا قويا بشخصه وعائلته، يكون الحل سهلاً على المصلحين، ويتم الحصول على العفو بسهولة، على اساس العفو عند المقدرة، اما اذا كان نداً لاهل القتيل، فتكون الحلول صعبة ومعقدة.
واذا نكل احدهم بالصلح اي لم يلتزم بما تعهد به امام المصلحين، فانه يتحمل جميع المسؤوليات المترتبة عليه وتسقط كل حقوقه الاجتماعية والعشائرية.
واما الاعتداء الداخلي (من العائلة نفسها)
فيكون العرف العشائري والاحكام بحسب نوع الجريمة ـ فينفى ويهدر دمه اذا كانت ظلما وعدوانا، ويدفع جزاء ماديا (غير الديّه)، حتى يتنازل اهل القتيل عن حقوقهم ويعيدونه اليهم.
وفي المناسبة نذكر ان هناك محاولات للحد من جاهلية الثأر العشائري لجهة الثأر من اي شخص من عائلة القاتل، فقد جرى اجتماع في بيروت في منزل الشيخ محمد مهدي شمس الدين عام 7891 ضم السادة الحاج عباس اسدالله شمص، حسن مصطفى دندش، علي حمد جعفر، فياض علو، يحيى شمص، عبد المولى امهز، صباح حميّه، وطالب المجتمعون في خلال الاجتماع من سماحة الشيخ اصدار ميثاق ينص على ان لا يقتل الا القاتل ومناصريه على القتل، وبالفعل قد صدر الميثاق وتبلغته جميع العشائر والعائلات وشكل المجتمعون على الاثر لجنتين لادارة عمليات الصلح في بعلبك والهرمل، ولا يزال هذا الميثاق معمولا به الى الآن، كما اكد الحاج عباس شمص.
} الاسير }
الاسير كما هو معروف هو الذي يستسلم في معركة، او يعتقله في مكان ما من يكون له عليه او على عائلته ثأر او تكون عائلته في حالة حرب وعداء مع العائلة التي احتجزه افرادها.
وللاسير عند العشائر حرمة وحصانة، فلا يقتل ولا يهان ولا يساء اليه، بل ينزل ضيفا عند زعيم العشيرة او احد وجهائها معززا مكرما الى ان تجرى عملية التبادل مع اسير او اسرى اخرين في حال وجودهم عند العشيرة المعادية، او يبقى عندهم رهينة حتى تحقيق طلب او امر معين، وتستطيع وجوه العشائر والعائلات ان تتدخل للافراج عنه، فلا يرفض طلبها.. فجاه «الاوادم» عند عشائرنا محترم ومصان ويحل اي مشكلة مهما كانت مستعصية.
اما العشيرة التي تقتل اسيرها فتتنكر لها باقي العشائر، فشهادتها لا تعود تقبل، وحضورها يضمحل بين العشائر، كما يسقط قدرها لديهم، فلا تعود تشاور في صلح، ولا يؤخذ رأيها وتحرم من حق المناصرة في الملمات.
} العرض }
عند ارتكاب احد افراد العشيرة مسألة شائنة كالمساس بعرض او ما شابه، تسقط كامل حقوقه العشائرية والاجتماعية، فلا شهادته تقوم، ولا يساعد في اي امر، وتنبذه عشيرته هذا اذا بقي على قيد الحياة بعد ارتكابه الجرم.
} الخطيفة }
للخطيفة عند العشيرة انواع هي:
1ـ اذا خطف احد افراد العشيرة قريبته من العشيرة نفسها، تكون الاحكام المترتبة على ذلك في حالة رضى الفتاة دون «خاطر» اهلها (علمهم وموافقتهم) كما يأتي:
أ ـ تجرى مفاوضات للصلح يشترك فيها فضلا عن اوجه العشيرة، اوجه من باقي العشائر، يتم بنتيجتها قبول اهل الخاطف بتقديم فتاة او اكثر فدية عن الفتاة المخطوفة.
ب ـ اذا كان مكتوباً كتابها، تعتبر زانية، والزانية تقتل وخاطفها يهدر دمه وينفى.
2ـ اذا كانت الفتاة المخطوفة من غير عائلة الخاطف ومساويتها في الرتبة، فأبسط امور الخطيفة هي التي تأتي بعد توافق الشاب والبنت مع مشاورة اهلها عدة مرات، ورفضهم.
3ـ حالة الخطيفة غير المتكافئة
أ ـ اذا خطفت احدى بنات العشيرة من احد ابناء عشيرة اخرى، لا تعد ندا لها (مساويتها في الرتبة)، ينتقم اهلها منها انتقاما شديدا، فيهدرون دمها مع خاطفها ويتم نفيهما دون القبول بالصلح..
ب ـ اذا خطف احد ابناء العشيرة فتاة من عشيرة لا تعد ندّها يهدر دمه ويبعد خارج المنطقة مع عروسه.
4ـ اما اذا كان الخاطف من غير مذهبهم فلا يمسح عار ذلك الا القتل.. والعكس صحيح هنا بالطبع.
} القهوة }
للقهوة اهمية كبرى عند العشائر عموما، فلا تكتمل حقوق الضيافة الا بها ولا تعتبر الزيارة مقبولة ومعدودة الا حين تشرب القهوة، فبيوت الوجاهة والكرم هي التي يعتاد اهلها طبخ القهوة واسقاءها للقاصي والداني. ومن لا تشرب قهوته هو محتقر ومهان عند العشائر.
واذا زرت احدا منهم وشربت القهوة يعني انك عملت معه معروفا كبيرا ومحضته احتراما وتقديرا، فإذا قصد احد الوجهاء او السياسيين بيت احدهم وشرب القهوة يعني ذلك انه باع من نزل عليه ضيفا موقفا مهما وقد لجأ الى هذا الاسلوب بعض نواب المنطقة في جولاتهم الانتخابية، فكانوا يدخلون البيوت ويشربون القهوة، فالذي يشربون من قهوته يكسبون صوته في الانتخابات (ذلك طبعا، ليس قاعدة عامة متعارفا عليها).
وقد نشأ حول القهوة لاهميتها اعراف وتقاليد منها:
انه عند حل مشكلة معينة، يطلب التعاون والمساعدة فيها مثل طلب عروس، العفو عن قاتل… فإذا ما قدمت القهوة امام الطالبين او المصلحين لا يشربها احد الا بعد عرض الطلب والموافقة على التنفيذ من قبل صاحب البيت، فاذا ما قال «تفضلوا اشربوا القهوة» صار لزاما عليه ان ينفذ ما طلب منه، واذا نكس بوعده يسقط في المجتمع العشائري وتسجل عليه احدى كبائر الاهانات.
ومن العادات البدوية التي قليلا ما يعمل بها عند عشائرنا، انه اذا اتفق وكان للعشيرة ثأر على احدى العشائر الاخرى، يجتمع شباب العشيرة المغدورة باحد ابنائها في منزل شيخها.. فيسكب الشيخ فنجان القهوة، ويرفعه عاليا ويقول : «هذا فنجان فلان (القاتل) فمن يتناول من يد شيخه الفنجان ويشربه، يصبح لزاما عليه ان يقتل هذا الشخص ويأخذ بثأر العشيرة.
وعند البدو ايضا انك اذا اضفت جماعة فيقال: «الفنجان الاول (الذي تشربه) للضيف والثاني للكيف واما الثالث فللسيف»، والمقصود هنا بكلمة «للسـيف» انـك اذا شربت الفنجان الثالث يكون ذلك اعلانا للحرب والقتال على صاحب البيت واهله.
وقد احتل الشاي المرتبة الثانية بعد القهوة وعند عشائر الهرمل ربما الاولى، فالشاي «الهرملاني» البالغ المرورة مضرب مثل وقد قيل في الشاي عموما «خمرة المؤمنين».

المصدر: جريدة الديار